كنافة بعد عشرين عام...مدونة الاديب وليد الهودلي

 

بعد عشرين سنة..المحرر ابو ايهم جرادات ابن السيلة الحارثية



كان يحلو لي في
السجن أن أقف على صينيّة الكنافة والبلاطة الكهربائية تُلهب وجهها وتصنع حمرة
الخجل على صفحتها، أنقّل البلاطة من مكان لآخر حتى يتمّ نضجها، ساعة، ساعة ونصف
وأنا على وقفة واحدة كفرّان ماهر يتجلّى في عمله وهو يخرج خبزه من براثن اللهب
الحارق قبل أن يجتاحه الحرق، وفي الغرفة يشاطرني إياها سبعة غيري يشمّون الرائحة
العبقة بالكنافة العسقلانيّة، رفاقي في الغرفة ينظرون الى رجل يهوى طبخ الكنافة،
بينما أنا كنت في عالم ثان أتذكر ليلة الاعتقال حيث طلبت منّي زوجتي حبيبة الروح
الكنافة، وكان طفلي الاوّل قد بلغ من العمر عتيّا، عشرون يوما سرنا معه فيها وكأن
اليوم كسنة نرقب كل نفس من أنفاسه الصغيرة، ترقص قلوبنا على أنغام شهيقه وزفيره،
كان عازفا بارعا وكنا الراقصان، قلت لها غدا لك عندي احسن طبق كنافة، لماذا لم
أسارع فورا لتلبية هذا الطلب البسيط؟ تباطأت، تكاسلت، تلاءمت، فعلا أجرمت، ألهذه
الدرجة كنت قاسي القلب وأجّلت هذا الطلب لليوم التالي؟
في تلك الليلة
اصابت بيتنا صعقة احتلالية خبيثة، داهموا البيت بعد أن فجّروا بابه بسرعة فظيعة ،
ثواني كانت فوق رأسي عدة مدافع رشّاشة، انتزعوني من فراشي لأجد نفسي وقد انتقلت من
حضن دافئ لذيذ إلى حضن قاس من رعب وحديد، ومن التحقيق الى السجن ومحاكمهم المسرحية
الغارقة في الظلم كمسرحية بئيسة يشارك فيها ممثلون لا يجيدون التمثيل، كانت نتيجة
هذا المشوار التعيس أن حُكمت عشرين سنة، المهم أنّي لم أف بوعدي لزوجتي ولم أتمكّن
من تلبية رغبتها في الكنافة، وكانت ذكرياتي تحملني لتلك اللحظة كلما وقفت على
البلاطة الكهربائية التي تحيل وجه الصينية الى الخجل والاحمرار. عليّ الانتظار
عشرين سنة ثم ألبي رغبة الحبيبة بطبق كنافة نابلسية وليس عسقلانية، ولكن ما الفرق
بينهما؟
العسقلانية بجبنة
صفراء نظرا لحالة العداء المتأصلة بين إدارة السجن والجبنة البيضاء لا نراها ولا
ترانا، وكي أكون صادقا مرّة واحدة حضرت الجبنة البيضاء مدرّج الملعب، متى وكيف؟
إحدى المرّات نزل
عندنا شابّ كرفيق لنا في هذا السفر الطويل، وعندما هممنا مساء عمل الكنافة بعد ان
تمكنّا من جمع مخصصات الجبنة الصفراء لأسبوعين كاملين، هتف هذا الشاب لم لا نعملها
بالجبنة البيضاء، نظرت اليه أربعة عشر عينا مجتمعة تتلقّفه من كلّ جانب: أنّى لك
هذا؟ أو أنّه جديد عهد في السجن ينتظر الذهاب للسوبرماركت وشراء الجبنة أو حلب
البقرات التابعة للسجن كما كان الاسرى القدامى يعملون المقالب مع الجدد؟ قال
بهدوء: لكم بعد ساعتين أن تأكلوا كنافة بجبنة بيضاء، فقط لا تتدخّلوا حتى أنهي
عملي. وقال كلمة الخضر لموسى عليهما السلام" قال لا تسالني عن شيء حتى أُحدث
لك منه ذكرا" .
قفز الى حقيبته
وسحب منها جربانا جديدا، فتح كرتونتي حليب، سكبهما في وعاء، سخّنه قليلا على
البلاطة الكهربائية، ثم القى جربانه في الحليب، وقام بتغطيته ببطّانيّة، بعد ساعة
فتح على الوعاء وإذا به قطعة جبن بيضاء، قطّعها وبسطها على سطح الصينيّة ثم بسط
عليها عجينة الكنافة والتي كنّا نحضّره من لبّ الخبز بعد تجفيفه في الشمس وبرشه
ليصبح ناعما ، وبدأت عملية التسخين من أسفل ثم علّق البلاطة من أعلى ليُحمّر
وجهها، ودار بها على السطح كلّه وعندما ظهر استحياؤها واحمرّ وجهها جاء بالقطر
وسكبه ليغرقها بها، وأكلنا كنافة نابلسية هذه المرّة بحق وحقيق، بجبنة بيضاء، وكان
السؤال: ما سرّ هذه الجربانة التي حوّلت الحليب الى جبنة؟ 
بكل هدوء
وبابتسامة جميلة كست وجهه الوسيم قال: الجربانة أختي غرّقتها بالمسا
 " مادة التجبين" ثم جفّفتها قبل أن تدخلها
لي على الزيارة، فالذي جبّن الحليب ليس الجربانة وإنما "المسا" العالقة
بها.  
مضت عشرون سنة
وقصتي مع الكنافة قصّة، يحمرّ وجه الصينيّة وقلبي يشتعل بحرارة يكاد يحترق بها،
اتذكّر تلك اللحظة التي تسرّعت فيها وأجلت الموضوع للغد، كم كان قلبي قاسيا وكم
كنت فظّا، أهذا يؤجّل للغد؟ وكانت البلاطة تلهب وجه الصينيّة وفي ذات الوقت تلهب
شوقي بعد أن تحرق قسوة قلبي وفظاظته. كم مرّة من الاشتعال والحرق احتاجها هذا
القلب ليعوّض تلك اللحظة القاسية، أيها الناس أرأفوا بأحبتكم ولا تقسوا عليهم أبدا،
لا تُذهبوا جمال قلوبكم بما يعتريها في لحظات الغياب وغلظة المشاعر.
ومضت هذه الرحلة
القاسية، عشرون سنة قطعتها في محراب التبتّل والانقطاع وصحبة الحبيب الأكبر جلّ في
علاه، كنت أسكب من معين اليقين وصلة الروح بربّها على حرارة الشوق التي كانت
أحيانا تبسط نفوذها وتكاد تحرقني جسدا وروحا، لولا لطف الله ورحمته بنا، عشرون سنة
بقضّها وقضيضها، بمعاركها واضراباتها وقمعها وخبث سجّانها، مضت كقطع الليل المظلم،
أكلت كثيرا من أجسادنا وارواحنا، نهشت ما نهشت وأبقت ما أبقت، كانت المحصّلة اني
بفضل ربّي قد تجاوزتها بسلام، خرجت بكلّ ما أحمل من مبادئ وايمان وانتماء، وكما
يقولون أن السجن لا يغلق بابه على أحد، رغم أن هذه القاعدة ليست على اطلاقها فهناك
من قتلوه بإهمالهم الطبّي المتعمّد فاستشهد في السجن وبقيت جثته محجوزة في
ثلاجاتهم المقيتة، وهناك من قتل في زنازين التحقيق، نعم هذه الجبلّة النكدة من
البشر كسرت هذه القاعدة، هناك من أُغلق عليهم باب السجن ولم يفتح.
بعد عشرين سنة
رقصت لي الدنيا من جديد، فتح لي باب السجن، دقّت ساعة الولادة بعد مخاض عسير
استمرّ عشرين سنة، تلبّدت أحزاني وأوجاعي وركنتها موقعا نائيا في قلبي، حاولت فتح
بوابة الحرية التي صدأ قفلها وتكلّست مفاصلها، حاولت أن أتخيّل شكل الحرية من
جديد، أنّي لي السير في الشارع بشكل مستقيم دون ان يأخذني جدار ساحة السجن ويردّني
كي أدور في فلكها اللئيم، تذهب وتعود الى حيث بدأت، لم يستوعب عقلي أن العشرين سنة
قد آذنت بالزوال وقد حان قطاف حريّتي..
فتحت الدنيا
ذراعيها وطرنا من بوابة السجن الى حيث رؤية الدنيا دون أن يشوّهها الحديد وتلك
الوجوه النكدة، فتحت نافذة السيارة وشعرت بلذّة عجيبة، أن تمنح لك صلاحية فتح
النافذة، وما أدراك ما النافذة، عريضة واسعة خيّل لي أني أرى منه الدنيا كلّها،
الا لعنة الله على البوسطة التي إن أردت أن ترى الدنيا فعليك بالوقوف ورؤيتها من
خرق إبرة،  الهواء العذب الطلق، نسيما
عليلا رقراقا، أجلس في سيّارة مثل بقيّة البشر على مقعد وفير بينما تلك اللعينة
على الحديد مباشرة دون أن يحول بينك وبيها أيّ حائل، أملك حرية فتح النافذة
واغلاقها كهربائيا أيضا، لم تكن قبل الحبسة هكذا، كانت يدويّة، اخذت أمارس حريّتي
أفتح النافذة وأغلقها، قلت لأخي قائد السيّارة، توقّف فتوقّف، إذا لا حاجة لحصر
بولي وضغط مثانتي لان البوسطة لا تتوقّف، هذه بإمكاني أن أقضي حاجتي بكلمة واحدة.
ضربت المقارنات
بين السجن والحريّة رأسي من كل جانب، كلّما أرى شيئا أربطه بعكسه في السجن، انطلق
لساني وفلت من عقاله، رأيت الدهشة في وجوه من حولي كم هي واسعة وعميقة كمن يشاهد
فيلما سينمائيا تراجيديا إلى درجة بالغ فيها المخرج كثيرا، زوجتي كانت ترقبني بطرف
عينها كونها تشاطرني المقعد الخلفي، لا تدري كيف تعبّر عن مشاعرها التي اجتاحتها
بكلّ الألوان الجميلة وداهمت قلبها دفعة واحدة، كانت كمن أرغم على الحديث في
مواضيع كثيرة دفعة واحدة ولا تدري لمن تعطي الأولوية، عقدت لسانها وآثرت أن ترقب
المشهد.
وصل الركب مدينة
جنين: جنين الحرية والثورة، جنين المقاومة والمطاردة، جنين الابيّة المستعصية على
الاحتلال، جنين الذي جنّنه عشقها، انفتل وهو يصوّب فوّهات عينيه على عينيها
الجميلتين:
-      
ماذا تذكرين من آخر يوم سبق اعتقالي؟
-      
اتذكّر أشياء كثيرة يا روح قلبي.
-      
مثل:
وطفقت تروي تفاصيل
ذلك اليوم إلا أنّها لم تصل ما أريد.
" قلت لأخي
السائق:
-      
ميّل على محلّ حلويّات.
هتفت زوجتي:
-      
آه تذكّرت، طلبت منك كنافة في تلك الليلة
الأخيرة.
-      
ووعدتك في اليوم التالي.
-      
سأنفذ وعدي اليوم بعد عشرين سنة.
-      
ما أسوأ الاحتلال.
-      
وما أسوأ ان يؤجّل المرء طلب محبوبته.
-      
منذ ذاك اليوم لم تدخل الكنافة حلقي.
-      
تريدينها بجبنة صفراء أم بيضاء، عسقلانيّة أم
نابلسيّة؟
"
ضحكت بملىء فيها ...  أردفت"
-      
ألا لعنة الله على الاحتلال.
        
 




























































أحدث أقدم