قرّر أن يفي بوعد قطعه لأبنائه، ولم لا وقد قبض راتبه بالأمس، ليوسّع على أهله بعد أن وسّع الله عليه، اتصل مع زوجته صباحا وطلب منها ان لا تطبخ اليوم، ولم يفسح لأسئلتها من الوقت ما يشبع فضولها، ولداه ابني الخامسة والسابعة يحبان النشّ " الشواء" ويفضّلانه على سائر الطعام، يراهما صقرين منتشيين وهما ينهشان اللحم وينزعانه من سيخه الذي يجود عليهم من كرمه، بشّرتهم أمهم بوجبة شهية سيحضرها أبوهم مع عودته من العمل. غادر الورشة حيث يختلط الاسمنت وغبار الحجر بالعرق، كان كأسير قد فكّ قيده، انطلق لا يلوي على شيء، لا يهجسه سوى تمكّنه من رسم الفرحة على وجوه أطفاله، وأن لا ينسى شيئا من متطلبات هذه الفرحة، وكان لا بدّ من حسابات الكميّة الكافية من الدجاج واللحم والفحم واللبن والمشروبات الغازيّة بالإضافة الى علبة المخلّل التي يعشقها ولده محمد. "هذا الذكي اللمّاح الذي يرى نفسه طبيبا وهو في سنّه السابعة، يتذاكى علينا جميعا بمفاجآته التي يظهر فيها بفكرة جديدة حصل عليها أو صنعها من بنات عقله، بينما أحمد مولع في مخالفة أخيه، يطارد الشاشة الصغيرة مطاردة القطّ لفريسته، يسطو على أيّ خلوي يراه أمامه دون أن يلفت صاحبه، أمّه سرعان ما تكتشفه فيعلوا صوتهما. وصل الشارع الرئيس المكتظ بكلّ شيء، السيّارات في أزمة سير خانقة، كالعادة في مثل هذا الوقت، المحلّات التجارية تفتح فاها وتغري زبائنها بعروض تندلق الى رصيف الشارع الذي يتقاسمه الناس والبضائع. صوت الضجيج يعلو في رأسه ولكن السيطرة لمشهد كانون النش وقد أشعل نيرانه واشتعلت الفرحة في قلوب أبنائه وهم يتلمّظون على رائحة الشواء الفاخرة، يا له من مشهد عظيم. ويرى مشهدا ثالثا ينقضّ على قلبه ليفسد كلّ جمال فيه، مشهد المستوطن الذي يقود سيارته وسلاحه على يمينه متحفّز للقتل وارتكاب الجريمة، ووحدة جيش احتلالي ترمق المشهد وعلى أهبّة الاستعداد لأي طارئ خارج عن الحسبان، يرى فيهم مقاصل متحرّكة مستعدة للانقضاض على رقاب العباد، تنتاب قلبه مشاهد رعب، كيف قتلوا شابّا بدم بارد ورموا قربه سكّينا ليدّعوا أنه جاء ليطعنهم، مشهد تكرّر كثيرا في وحشيّتهم الطويلة معنا، ماذا لو تلبّسوه بافتراء ما؟ ينظر أمامه فيرى زوجته وبنيه بانتظاره، ينظر الى سيارة المستوطن والجنود المتربصين فيرى الموت يحوم من فوقه، ضربات قلبه تضرب جدران صدره بصخب وعنف، تلبّكت قدماه، التفت الى المستوطن السائق وجده يحدّج عينيه باتجاهه، تدور عيناه في مقلتيه، هو الاخر يرتعب من هذا الفلسطيني التي تسرع به قدماه نحو هدفه المنشود، صار فراغا أمامه فشدّ على دعسة البنزين كالفارّ من حيوان مفترس وكانت لحظة قطع الشارع للباحث عن فرحة أبنائه، ضربت خاصرته مرآة السيّارة فسبّ ولعن، المستوطن بدوره سحب سلاحه، طلب نجدة الجنود المتحفزين، كبسة زر على خلويّه يجد الجنود فوق رأسه، أشار الى الفلسطيني الارهابيّ الذي ضربت خاصرته بسيّارته، ارتبك صاحبنا ولم يدر ما يقول أمام هول الصدمتين: صدمة الضربة التي صعق المها جسمه، وانقضاض السّباع المفترسة عليه، ألقى أحدهم يده على رقبته ولفّها عليها، تدخّل بعض المارّة: " لم يفعل شيئا، اتركوه حرام عليكم". دفع الجنود الناس للخلف وكأنهم يخلون الساحة لحلبة مصارعة، وكانت أنفاس الباحث عن فرحة أبنائه تتراجع، محصورة محشورة في صدره، الاختناق يداهمه من كل جانب وكان الجندي القابض على عنقه يظهر تجليات فروسيته بالمزيد من الخنق بيد، وتسديد لكمات سريعة متلاحقة قاسية باليد الأخرى على وجهه، حرارة الروح تدفع الجسد كي ينتفض كالديك المذبوح، غابت عن باله وليمة النشّ، اجتاحه شعور بالكرامة من أخمص قدمه الى ناصية رأسه، غابت عن شاشة قلبه كل مشاهد الحياة سوى هذا الشيطان القابض على رقبته، تحرّكت يداه بعشوائية بعد أن خلّص رقبته، الجندي بدوره ثارت في أعماقه عنصريته السوداء، فكيف لهذا الصرصار أن يحاول الخلاص، يتمرّد على أسياده؟ الى درجة أن يخرج من قبضته؟ واعتبر الجندي حركة يديه العشوائيتين محاولة اعتداء آثمة من شخص لا يستحق الحياة على شخص هو صاحب الحياة ومليكها، ثارت عواصف الغضب وأثارت غبار الحقد الأسود المتراكم في صدره، سحب مسدسه وأطلق النار رصاصة ورصاصة ثم بشكل هستيريّ تتابع الرصاص، تقلّب الباحث عن فرحة أولاده على الأرض، كانت الدماء غزيرة، خيّل للناس انها بحر من الدماء وصاحبنا يغرق في هذا البخر. حظي مشهد القتل بالتصوير من كاميرات الشارع بعد دقائق كان ينتشر بسرعة البرق على مواقع التواصل، زاد من رصيد وقود الغضب وشعر الناس بقرب القصاص، علا في صدورهم شهيدنا بألف منكم قريبا بإذن الله. هذه الدماء توفّر مزيدا من الوقود في مرجل الغضب الى حين الانفجار.
التسميات :
قصص قصيرة