فقه الابتلاء ( نبضات ساخنة )

فقه
الابتلاء: عقوبة ربّانية أم فرص وتحدّيات؟!                                       
بدأ بهذه القصة حيث توفّرت لمهندسين قبل
أ ربعين عاما فرصة عمل ذهبية في الولايات المتحدة الامريكية، ابتلي أحدهما بالمنع
من السفر حيث أعادته سلطات الاحتلال، والان سأعطي الحديث لصاحب الفرصة الامريكية
حيث فتحت له أبواب الرزق هناك وبدا أنه كان صاحب الحظ الاوفر، يقول حفظه الله وقد
بلغ من العمر عتيّا وعاد وهو يحمل أعظم أمنية وهي أن يدفن في بلده ويحوي عظامه ثرى
هذا الوطن العزيز..

" كنت بداية الامر حزينا على صاحبي
الذي ابتلي هذا الابتلاء القاسي وحرم من فرصة لجمع ثروة كبيرة من المال، بعثت له
رسالة عزاء ورثاء ومواساة على هذا المصاب الجلل، عاد مسكينا محروما إلى حياته
الاكاديمية في الجامعة التي كنا نعمل بها سويّة، بينما أنا ذهبت لبلاد الثراء
والغنى الفاحش، عملت مهندسا في شركة "بوينج لصناعة الطائرات" حيث يعمل
فيها قرابة خمسة الاف مهندس كنت عنصرا في هذا الفريق، بداية الطريق كانت شيّقة
وممتعة وتشعر صاحبها بالفخر والاعتزاز على انه ينتمي الى هذه الشركة العملاقة،
تنتابني مشاعر الزهاو والسموّ لذاتي والحزن والكمد لما أصاب صاحبي.
بعد عدة سنوات من العمل الجادّ والانجاز في
عالم المال والولد حيث تزوجت ورزقت أطفالا انتابني شعور بأني مجرّد برغي في عجلة
اقتصادية ضخمة لبلد غريب ليس بلدي وحتى أن أبنائي الذين خلفتهم هم ليسوا لي وإنما
لهذا البلد، تحوّلت مشاعر الحزن على صاحبي الى مشاعر الغبطة، أغبطه على حياته التي
بدت لي جميلة جدا، حتى أن حاجز الاحتلال الذي كان يقطع الطريق بين المدينة
والجامعة فيضطر صاحبي الى السير على أقدامه ليواصل رسالته في جامعته أصبحت أراه
نعمة أنعمها الله على صاحبي، إنه عنصر في عجلة الحياة والتحدي في بلده، بينما أنا
مجرّد برغي صغير في عجلة بلاد تصبّ عداءها على أمتي وتناصر من احتل بلدي، تبدّلت
مشاعر الحزن والاسى والفخر والاعتزاز، أصبحت أحزن على نفسي بينما أفخر وأعتز
بصاحبي، يا لهذا الابتلاء الذي كان مردّه جميلا على صاحبي، وصرت أتمنّى لو ابتلاني
الله بما ابتلى به صاحبي ومنعت من السفر حينها وعدت خادما لبلدي.
التقينا بعد أربعين سنة قلت لصاحبي: تذكر
كم حزنّا على الابتلاء الذي اصابك حينها، أجمل أيام حياتي السنتين التي عملت بها
معيدا في جامعة بيرزيت، حياتي كلها بذلتها هناك وولدي من بعدي أيضا لهم، ليتني
ابتليت مثلك واهتبلت فرصتي في الحياة هنا، بالفعل هنا الفرصة الذهبية وليست هناك.
واذكر أن ضابط مخابرات صهيوني حقق مع شاب
فلسطيني وقرّر الافراج عنه قائلا: أنا قادر على سجنك الان ولكن أنا متأكد أنك
ستدخل السجن فدائي صغير وتخرج منه فدائي كبير لذلك قررت إطلاق سراحك.
(السجن صار بالإمكان تحويله من عقوبة ومحنة
الى فرصة ومنحة: وهذا ما أثبتته الحركة الاسيرة بكلّ جدارة)
اليوم صرت أفهم جيدا لماذا يبتلي الله
عباده؟ وصرت أفهم لماذا جاءت الصيغ القرآنية حول الابتلاء بهذه الصورة المذهلة من
الغرابة والدهشة، مثلا: " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى
يميز الخبيث من الطيب" التعبير : ما كان الله يعني ولا يمكن أن تسير الحياة
هكذا وإنما لا بدّ من الابتلاء والتمحيص او لأقل دونما فرص اختبار وتحديات ، عندئذ
ستسير الحياة الى العجز والكسل والضعف والوهن ومن سيء الى أسوأ ، تأتي الابتلاءات
لتهيئ الفرص واستفزاز الطاقات الكامنة واخراجها الى حيز الحياة والفعل والانجاز،
تماما عندما يحقن الجسم بالمضاد الحيوي فيخرج هذا الجسم قواه للانقضاض على المرض
وإثبات الذات في المواجهة.
كذلك الصيغ القرآنية التي جاءت بهذه الصور
الضاربة في عمق الوجدان الإنساني: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يعلم
الله الذين جاهدوا ويعلم الصابرين " " ام حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما
يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا .... فطريق الجنة
محفوفة في الجهاد والصبر على محكّ البأساء والضرّاء وشدائد هذه الحياة وتحدياتها.
ولو تصوّرنا العكس أن طريق الجنة مفروشة
بالورود والدعة وأن الله يعطي عباده ما يتمنون ويريدون دون كدّ وعمل ودونما أن
يخرجوا ما بدواخلهم من قدرات إبداعية ومجاهدة وصبر واحتمال، لو كان الامر كذلك لما
صلح أمر هذه الحياة إذ سيقوم حينها على الأكثر كسلا وفشلا، ولكن الله أراد لهذه
الحياة أن تقوم على الأكثر نشاطا وجهدا، " وليعلم الله الذين جاهدوا ويعلم
الصابرين" فالحياة قائمة على بذل الجهد لا على الكسل وطلب الراحة في مواطن
العجز والفشل.
ومن صفات الرّب أنه سبحانه المربّي أيّ
يربي عباده لما يصلح أحوالهم ويجعل الحياة الدنيا جنة لهم لا عذابا ومقتا، لذلك
جعل الابتلاء وهو كما أسلفنا ممكن استبداله بكلمة فرصة حيث يجدر بالإنسان أن يقف
أمام تحدياته بقوة وجدارة، واليوم سمعنا ان اليابانيين مثلا جعلوا كلمة فرصة بدل
مشكلة، فكل حلّ يحتاج الى مشكلة لا لكل مشكلة حلّ كما كان سائدا.
البشرية اليوم أمام تحدّ كبير وهو مواجهة
هذا الفيروس الخبيث ووضع العلاجات المناسبة وهو تحدّ للمؤمن والكافر على حدّ سواء،
كما تساءل مصطفى محمود عن المؤمن والكافر عندما يتعرضا للغرق فمن ينجو ومن يغرق؟
فمن يتقن السباحة ينجو ومن لا يتقنها يغرق كان مؤمنا أم كافرا.
كما أن هذا الابتلاء يفتح الفرص أمام شهود
ضعف البشرية وانزوائها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الحادّ أمام فيروس يهاجمها
من كلّ أطرافها لإعادة التفكير في طبيعة هذا الاستكبار العالمي وحالة الطغيان
والغطرسة التي يظهر بها هؤلاء وأن البشرية بحاجة الى العدالة ووضع حد للطغيان
والجبروت وأن على الضعيف أن يصبح قويّا ويتخلّى عن حالة الاستلاب الحضاري والهزيمة
أمام هذا المستكبر.
هذا الابتلاء الذي وسع البشرية فيه فرصة
كبيرة لنهوض المستضعفين وهم يرون ذاك المستكبر يئن من وطأة الفيروس، فرصة كبيرة
لمواجهة التحديات والاعتماد على النفس والتحرّر من أية تبعية وان تترك البكائيات
وتنهض من سباتها العميق، الاحتلال الصهيوني يريد احتلال عقولنا ونفوسنا وان نبقى
ضعفاء، وهذا التحدي مع جملة التحديات الأخرى يضعنا وجها لوجه أمام معادلة الهزيمة
والنصر، والانتصار في كل الميادين هو مقدمة لانتصارنا في معركتنا الفاصلة مع من
احتلّ ارضنا أو من أراد أن يستلب قرارنا.
أختم بحكمة لابن عطاء السكندري: "
ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع صار المنع
عين العطاء.




























Previous Post Next Post