الأسير الشهيد نور البرغوثي وحجم الألم؟! لا يمكن تقدير حجم الألم الذي يصاحب أسير
قد تم إطلاق سراحه ولكنه بدل أن يخرج سائرا على قدميه، مرفوع الراس مشيرا بيده
بعلامة النصر، إذا به يخرج ممدّد على نعش، مرفوعا على أكتاف الرجال، يخرج جسدا
بينما روحه في أعالي السماء عند بارئها، كم رسمت له أمه من صور في مخيلتها، صورة
عندما يطلّ من بوابتهم المشئومة وقد تخلّص من كلّ ظلالهم السوداء، صورة وهو يركض
نحوها والفرح يشعّ من وجهه، وصورة لها وهي تلهث راكضة لعناقه المجنون، وصوره وهو
غارق في حضنها وهي غارقة في ثنايا روحه المعذّبة والمحرّرة من جحيمهم، ثم صورة وهو
يعانق محبيه الواحد تلو الاخر، وصورة وهي تأخذ بيده كطفل مدلّل قد فقد أمّه ثم عاد
اليها بكل ما يحمل من لهفة وحب وحنين، يعودان للبيت حيث أعدّت في البيت له ما يشبع
شوقها الذي لا نهاية له، إلى أن تصل الى الصورة وهي ترشّح له شريكة حياته الجميلة،
الاف الصور الجميلة بل قل ملايين الصور قد دخلت مخيلتها على مدار ست سنوات في
سجونهم اللعينة.
نور البرغوثي أمضى من حبسته التي قوامها
ثمانية سنوات ست سنوات، المسافة المتبقية بين امه وبين اسقاط ملايين الصور التي
رسمتها من مخيلتها إلى أرض الواقع سنتان وفي هذه المسافة ستستمر في رسم الصور وبكل
اشكالها الزاهية والجميلة، الصورة الوحيدة التي لم ترسمها هي الصورة التي صارت
حقيقة وخرج فيها نور مسجّى لا حراك فيه ولا نفس ولا يد تلوّح بشارة النصر على
السجّان والاحتلال وخروجه مرفوع الهامة، مشرق الوجه بنضارة وألق لا مثيل له.
يا لقلب الام كيف يتسع لكل هذا الحجم من الألم، كيف لا ينفجر وكيف لا تضرب
شظاياه كل أصحاب القلوب القاسية، كيف يتحمّل قلب السجّان وكيف ينظر المحتلّ في
المرآة ليرى وجه الاجرام البشري كلّه وقد تجسّد في وجهه، كيف يتعايش مع بشريته وفي
صدره قد تجمعت قلوب الذئاب الشرسة بكلّ الوانها وأنواعها؟
الام والأب والاخوات والاخوة نزل عليهم
الخبر كالصاعقة، هربت ملايين الصور تلك التي خزّنوها للإفراج الجميل، وقفت أمامهم
هذه الصورة شاخصة تصر على البقاء وتفرض نفسها بقوّة المحتلّ اللئيم عندما يأتي
بأبشع صورة له، ضجّت صدورهم بالحزن تارة وبالغضب تارة أخرى، لماذا يصل الاجرام إلى
هذه الدرجة المريعة؟ هكذا بدم بارد يتحوّل المشهد، هكذا تهرب الصور الجميلة وتأتي
صورة الموت، صورة القهر، صورة الانتقام التي تفوق تصوّر البشر، كيف أوصلوه الى
الموت وقطعوا عليه طريق حريته، كيف تفنّنوا في صناعة الموت بقنبلة كبيرة ألقوها
عليه هكذا دفعة واحدة؟
ونأتي لنتحدّث كثيرا عن: من يتحمّل
المسئولية؟ سؤال ساذج أمام جريمة بهذا الحجم؟ أيكفي لعدم تكرار هذه الجريمة بيانات
الشجب والاستنكار أو المطالبة بالإدانة لهذا الفعل، من يطالب من؟ نطالب المجتمع
الدولي ليخفّف عن قلب الامّ آلامه وأثقال احزانه؟ أو أن ينتفض وينحاز إلى الألم
ويكفّ أذى ذاك العتلّ الزنيم المارد المستكبر الجبّار؟ نطالب من لا يملك إرادة
العدالة أو من يملك ولكنهم حشروه تحت سقف ضيّق هو سقف قلوبهم القاسية.
لن أطالب الأمم المتحدة ولا مؤسسات حقوق
الانسان ولا الضمير العالمي الذي شيّع ضميره منذ وقت طويل، ولا داعي ان نطالب أصلا
لأن الذي يعرف واجبه لا ينتظر الاخرين حتى يطلبوه منه ولأنه "لا يحرث الأرض
إلا عجولها" كما قالوا قديما ولا يلجم الاحتلال إلا ما هو معروف للقاسي
والداني..