دُريس الشيخ مصطفى شاور يبدّد عتمة السجن
يحبّ المعتقل دائما الاستقرار، بينما سياسة
السجّان المحتل هي الانقضاض على هذا الاستقرار وإجراء التنقلات التعسفية بين
الاقسام في نفس السجن أو من سجن لآخر، الشيخ مصطفى شاور رحّال دائم لا يكاد يمضي
شهر الا ونقلته الإدارة، لا يشعر بالضيق بل يفرح لهذا، فيحرث القسم الذي ينتقل
اليه ليزرع فيه غرسه ثم يمضي ، يشق طريقه وسط أدغالهم ويبدّد عتمة سجونهم.
يقف الشيخ بعد الصلاة ليستأذن منهم سماع
دُريس، هذا المصطلح الذي أطلقه الشيخ على دروسه الشيّقة ليوحي اليهم أنه لن يطيل،
ولكن الشباب ينسجمون وتبدو على ملامحهم طلب المزيد فيسترسل الشيخ ساعة ساعة ونصف،
يتنقل من سبر عمق أية كريمة والبقاء في ظلها الوارف برهة من الزمن ثم يقطف من ثمار
الهدي النبوي ما لذّ وطاب، ويغدو ويروح بين قصة وعبرة الى حكمة وشعر ليصنع منها
تحفة فنية تسرّ الناظرين وتنعش قلوب السامعين، يأخذ بأيد المعتقلين ليقضوا وقتا
خارج وقت السجن، يستمعون لكلام ينير القلوب ويتحف العقول ويحرك الارادات الصادقة
والعزائم النبيلة وليصنع تغييرا جوهريا في حياة المعتقل.
ولم يكن الشيخ زارعا للاهتمامات العالية في
السجن بمقاله ولسانه فحسب وإنما كان حاله وفعله وطيب معشره أعظم دلالة على تحريك
إرادة الخير، خفيف الظلّ يدخل القلوب بسهولة ويسر، بكل تواضع يمازح ويلاطف ويستمع
ويتفقد الهموم ويبلسم الجراح، بعقل أب حكيم وقلب أم رحيم يطبّب النفوس من ضغوطات
السجن القاسية، عيادة في الطب النفسي النبوي متنقلة ترفع النفوس من ضيقها وتشرح
صدرها لاستغلال وقت السجن وتحويله من عدوّ الى صديق، من أرض بور الى جنة بربوة
أصابها وابل فأصبحت غنيّة بزرعها وثمرها الطيّب. كان قدوة متحركة يراها المعتقلون
شاخصة أمامهم لا يغادر الكتاب يمينه فلا تجده الا متحدثا بالحكمة وفصل القول أو
قارئا في كتاب، حتى وقفة العدد التي يجبر السجان المعتقلين على وقوفها كنت تجد
الشيخ وقد فتح كتابا فلا يضيع هذه الدقائق المعدودة، ليقرأ وليغيظهم بهذه الصورة
للمعتقل المعلم المتعلم.
الشيخ لم يكتف بالدرجة العلمية الحاصل
عليها وهي الدكتورا وإنما استمرّ في عملية ابحار لا حدود لها ففوق كل ذي علم عليم،
انطلق في اعتقالاته الإدارية (المعروفة بأنها على خلفية ملفّ سري لا يطلع عليه
المعتقل ) من قاعدة سأخسّرهم أكثر مما أخسر أو سأحوّل المحنة الى منحة، وبالفعل
نجح الشيخ في تحويل السجن من سجن تُقتل فيه الارادات ويُفرّغ فيه المعتقل من
محتواه الطيّب الى معقل لصناعة الرجال الاحرار وتطوير الذات، لقد نجح الشيخ بعلمه
وتعليمه ومثابرته في وضع المعتقلين على جادّة الصواب ونجح نجاحا باهرا في تحفيز كل
من يملك موهبة أو اهتمام من شأنه أن يحقق ما يخدم فيه أمته وقضيته من كتاب وشعراء
وخطباء وتعلم وتعليم اللغات وصناعة الثقافة في السجن من برامج ثقافية ومحاضرات
وندوات ومسابقات، وهنا أسجّل شكري الجزيل للشيخ على أنه كان أفضل من شجعني على
الكتابة في عالم الادب والرواية، وفيما بعد كان أفضل من شجع لتحويلها الى اعمال
فنية تشاهد، كان خير المشجعين لكلّ من يلمس فيه بوادر الابداع في أيّ مجال من
مجالات الابداع.
الدكتور الشيخ مصطفى شاور شكّل في السجون
وخارجها نموذجا رائدا ورائعا للداعية الذي يعرف تماما من أين تؤكل الكتف، ويعرف
تماما كيف يكون على قدر التحدّي مع عدو شرس في أقسى الظروف العاتية التي يمرّ بها البشر،
ويعرف كيف يستثمر وسط أدغالهم وكيف يزرع في صحراء النقب القاحلة وكيف يستخرج منها
خير الثمر.
انه الداعية القدوة، فلاح الصحراء مُعجب
الزرّاع ومُغيظ الأعداء.