قراءة في رواية الهروب لسليم دبور


الهروب


لكاتبها الفذ سليم دبور " ابن المخيم القضية واللجوء والشتات والتشظي والبقاء "

قرأت رواية عميقة وعالية وقوية وغنية وجميلةعميقة عندما سبرت أغوار فترة تاريخية خصبة بالأحداث والتحولات الفريدة .

رواية حلّقت عاليا في فضاءات واسعة كان لصابر " بطل الرواية" أن

يرفرف بجناحي عقله المجنون فيصل إلى ما لم يصل إليه العقلاء.. وقوية برمزيتها التي تأخذ العقول إلى ما وراء النص لتجد عدة روايات في رواية واحدة .. وكانت غنية بكل شيء فيها : مفرداتها ولغتها الجذلة وأحداثها التي جاءت تترى فتملأ الزمان والمكان لتدخل في كل تفاصيله بكل تفاصيلك ، وجميلة لدرجة تنساب فيها بكل مشاعرك لتطوف في حناياها فستنشق أريجها وتقطف من جنانها أجمل الثمر ، فتجمع بين حلاوة الروح ووجع الواقع في جدلية تلتقط أنفاسك وتعيش اللحظة على مساحة واسعة من رحيق الزهر وروعة الأمل وجلال القدر . 
وجدت نفسي وأنا أقرا الرواية أدخل في مكنوناتها بكل أحاسيسي ومشاعري وأنا أيضا ابن المخيم الذي عشق المخيم .. غبت عنه قصريّا مرحلة الرواية لتعيدني الرواية لأعيش كل لحظات الغياب بدقة مرهفة وكأني لم أبتعد .. المخيم بروحه وعنفوانه وآلامه وجميل تضحياته .. المخيم ببؤسه وشقائه ورائحته النافذة .. عشت مع هذه الرواية المخيم من جديد لأعيد لنفسي روحها التائهة .. القضية التي دخلت برمزية الرواية حالة الجنون السياسي واللامعقول الاجتماعي برمزية قلّ نظيرها .. تعيد نظم المسألة على قواعدها الأساسية فتتجلى حالة الجنون التي نعيشها .. من طبقة العقل العالية التي تبدو للناس جنونا خارجا عن المألوف يعيد صابر ترتيب المنطق فتبدو حالة التيه للقضية جنونا يمارسه كل العقلاء .. فمن المجنون إذا ؟؟ هكذا يعيدنا الكاتب (بتكنيك فني رفيع ) إلى عقولنا من جديد لننظر إلى ما آلت إليه الأمور وما نتج عن أوسلوا .. فيحلل السياسة برمزية بعيدة عن السياسة لنجد أنفسنا في قلب السياسة تائهين في دروبها وحائرين : هل بتنا بالفعل مجانين كصابر أم أن صابر هو العاقل فينا وأننا جميعا قد رتعنا من نهر الجنون الذي فرزته السياسة فسمته بمسمّياتها المخادعة ؟؟ 
ورسمت الرواية كما فعلت مدن الملح لعبد الرحمن منيف الكيان الذي يصنع من ملح في ظل احتلال ساديّ لا يعرف إلا لغة القهر والاستكبار فيقع شعب بأكمله بين مطرقة الاحتلال وسندان السياسة المغامرة بهذه القضية ذات القداسة العالية .. جسدت الرواية هذه الحالة برمزية عجيبة .. تارة من خلال صابر الخارج من المصحة ليكتشف الواقع من جديد فيفشل في إعادة صياغة نفسيته مع هذا الواقع ليكتشف الوجه الحقيقي لكل تداعياته المزيّفة .. يضحّي بقدمه في مواجهة انفجار مشؤوم ليسير بطريقة عرجاء دروب الواقع الجديد التي لا تستقيم معها وقع الأقدام القويمة، وفي نهاية الرواية يفقد عينه لتكتمل صورة الواقع الذي لا يرى إلا بعين واحدة .. شخصية صابر تحمل رموز كثيرة، شخصية محيرة تعيش واقع محير وتتردد ما بين من يعيش الماضي ولا يصدق الواقع .. يدخلنا الكاتب بجراحة بارعة إلى عالم صابر الداخلي لنتعرف على تضاريس صدره وكل تجاويف قلبه .. " من الهارب من المصحة إلى بائع الترمس الثقافي والمروج للبروتينات الثقافية إلى المناجي لصلاح الدين الأيوبي الذي يعده بمحاربة المخنثين الذين يدعون الرجولة وهي بريئة منهم ، " أصبحت شخصية صابر لدينا معروفة ومحبوبة وسارت بنا طولا وعرضا في مرحلة حساسة من مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر . كان بجنونه كاشفا للجنون ..فيقول مثلا مناجيا أباه : " أكاد أجن يا أبي ! كل الكلمات لم تعد تكفي لوصف ما يدور ، والعالم نيام ..ما أفظع أن تقتل بدم بارد وتنعت بالإرهابي وينعت القاتل بالضحية ! جعلوا الدفاع عن الوطن إرهابا جعلوا حبه جريمة ، جعلوا الضحية مجرما والمجرم ضحية ، قلبوا موازين العدل بخداعهم وخداع العالم الغبي الذي لا يقرأ إلا روايتهم الكاذبة ."
وتمر الرواية بنا من خلال صابر إلى السجن فيرسم تضاريسه من خلال ما رسموا تضاريس حقدهم بسجائرهم فوق لحمه فيعيثوا بتضاريس صدره ويتلذذوا على رائحة الشواء ليصل بصابر إلى درجة أن يناشد عزرائيل بأن يأتي لكن عزرائيل اشمأز من رائحته وشكله وطبعا لم يأت.. " 
وتدخل الرواية في أعماق النسيج الاجتماعي ليحظى القارئ بهذا اللقاء العظيم بعد معاناة عظيمة بين الأب وابنه ويا لها من دلالة رمزية يلتحم فيها الواقع المر بالمستقبل الجميل الواعد المستعد لحمل الأمانة ومواصلة النضال فكان اختيار الكاتب لشخصية صابر الصغير المؤهلة نفسيا للاستمرار في الطريق . 
وتستمر الرواية وتذوب الفرحة على حد تعبير الكاتب الجميل في فم الخبر العاجل بعمق فلسفي رائع : فالفرح والحزن في الحياة الفلسطينية في صراع دائم متقلب .. تارة ينتصر الحزن فيفجعنا وتارة ينتصر الفرح فيثلج صدورنا لا الحزن يدوم ولا الفرح يدوم .. تتبدل فينا أدوار الحياة تتغير فينا أشكال الواقع هذا نجا وذاك مات هذا نجح وذاك رسب .. وببراءة شعبية بسيطة يتساءل بعد دوي انفجار هائل : تمخضت الانتفاضة الأولى فأنجبت طفلا معاقا أسموه أوسلوا يا ترى ماذا ستنجب هذه الانتفاضة ؟ وهكذا يسير بنا من بعد فلسفي عميق الى سؤال شعبي بسيط يتردد في صدور عامة الناس لتكون الرواية كما هي رواية النخبة هي في ذات الوقت رواية الشعب . 
ولنتعرف على أكثر من طبقة في عالم الجنون الذي يكشف عورات جنون الواقع المر كانت شخصية جرعوش حيث عدة شخصيات في شخصية واحدة تتمظهر بالجنون " وتَحير عقلي من فصاحة لسانه وكأنه ليس جرعوش الذي أعرفه أذهلني بوعيه وإدراكه لما يدور حوله وبشخصيته التي تزداد غموضا يوما بعد يوم " _ والكلام للكاتب _ جرعوش شخصية المناضل المقاوم الساعي ليل نهار بكل وجوه الخير .. يجسد قيم الوفاء الاجتماعي في رعايته لأرملة انقطعت بها السبل والداعم لصابر العائد من المصحة بلا حدود والعامل مع رجال المقاومة ويضطر ليمثل دور المجنون برمزية ساحقة تجعل القارئ يحب هذا النوع من الجنون .. وهذا نقد ساخر يمتلئ حزنا لثقافة مجتمع يبدو أحيانا فيها أن من أراد أن يكون شهما منتصرا للمظلوم مقاوما لجبروت الظلم فإنه لا بد أن يكون مجنونا خاصة إذا كان حجم الظلم كبيرا ومعادلة الإمكانيات تميل لصالحه ميلا عظيما . 
تنهد أيوب المكمل لصابر في الثنائية الرمزية العجيبة وقال : السعادة الحقيقية التي نبحث عنها ليست موجودة في هذه الدنيا لان حياتنا الخالدة لم تبدأ بعد .. رد صابر : " سعادة الدنيا تكمن في الجنون .. بالجنون وحده تتجاوز الفكر البشري المحدود وقوانينه العقيمة وتحلق إلى ما هو أبعد بكثير مما وصل إليه أعظم العقلاء " ويرده جرعوش عن جنونه " ربما يكون الغد أفضل " 
ويناجي صابر أباه في لحظة سوداء " آه يا أبي فقدت مصباحي الأيمن فقدت نوره انطفأ فجأة دون أية مقدمات .. فُقئت عيني بسبب نظرة ظننتها مباحة .. فقأها المجرمون كما فقئوا صبري .. أصبحت بعين واحدة استكثروا أن يكون لي اثنتين كباقي البشر فأسقطوا واحدة .. جن جنوني يا أبي .. ابتدأت أصرخ في المستشفى : أعيدوا لي قدمي أعيدوا لي عيني أعيدوا لي صبري ... وتبلغ الرمزية مداها عندما تفقد القضية قدمها فتسير عرجاء وتفقد عينها اليمنى " اليمنى" فترى الأمور بعين واحدة " اليسرى " ... 
ويتابع " لا تقلق يا أبي ! أفضفض لك عما يكتسح قلبي من ألم محظور وصمت ملعون .. أعلم أن فضفضتي قد تكلفني الكثير .. قد تضع القيد في معصمي أو رصاصة في قلبي .. لكنني لو أراد الله أن يسكتني لخلقي أبكم " 
وتصل الرواية إلى تقعيد هذا المفهوم الثوري لشعب يرزخ تحت احتلال بغيض لا يصلح معه إلا هذا الجنون الذي جسده الثلاثي الرائع : صابر وأيوب وجرعوش .. وأن كل محاولات الإسكات التي تصيب القدم كأداة للسير والعين كأداة للرؤية والعقل كأداة للتفكير لن تثني هذا الشعب لمواصلة طريق التحرر والتحرير . 
ويختم بهذه الكلمات الذهبية : سجل أيها التاريخ المحايد : صابر وأيوب لا ينحنيان / لا ينهزمان ، أمعاؤنا خاوية ، حلوقنا تشتاق للماء النقي الممنوع ، أجسادنا يحاصرها البرد أحلامنا مقطعة ، عيوننا لا تعرف النوم .. لكننا لن نستسلم ... ويتابع إلى أن يصل : نتعلم ونعلم الآخرين فن الممكن من المستحيل ، نعلمهم كيف يُهزم الظلم أمام الحق ونروي لهم حكاية أرضنا باختصار شديد .. 
كما ترون مشحونة بالرمز : الرمز بكليتها والرمز بدلالة كل كلمة فيها .. 
رواية تستحق منا الكثير فقد بذل فيها الكاتب عصارة علمه وتجربته بكل فن روائي مقتدر .. أقول لن يحيط بكنوزها القارىء الا بعد ان يقرأها المرة تلو الأخرى ..








Previous Post Next Post