ركبنا السفينة .. مع عالمنا الكبير د. عيد دحادحة

الخطيب عيد دحادحة


كان ذلك عندما قصّ علينا الدكتور في خطبة
الجمعة بطريقته الفريدة قصة نوح عليه السلام مع قومه وقصتنا نحن الفلسطينيين مع السفينة
فلسطين ؟! هناك من يقرّب لك المعنى ويجعلك ترى من بعيد أحداث قصة قديمة وهناك من
يدخلك القصة ويجعلك جزءا منها، تتفاعل بكليتك وكل قدراتك العقلية واستشعاراتك
القلبية .


رايت القوم المؤمنين مع نبيهم نوح عليه
السلام وهم يبنون سفينة في الصحراء، لم أر شاطىء بحر ولا نهر، أناس جاءهم أمر الله
فصدقوه يقينا، نوح عليه السلام بعد مسيرة حافلة من الدعوة الى الله لم يؤمن معه
الا قليل واخبره مولاه بأنه بعد اليوم لن يؤمن من قومه أحد، وأمره بالانحياز الى
خيار النجاة هو ومن آمن معه بطريقة غير مسبوقة: السفينة ؟!


أصبحت السفينة هي مشروع الجماعة المؤمنة
وفق أمر رباني سماويّ، رايت هذا المشروع بأم عيني ورايت مقابله مشروع الظالمين
الجاحدين الذين انحازوا الى الكفر ضد نوح ورسالة السماء، تكاثفت في نفوسهم ثقلة
الطين فهبطوا الى معادلات الحسابات الارضية التي تتنكر لرسالة السماء فما كان منهم
الا أن يسخروا بما يفعل نوح ، سخروا من خلال معادلاتهم الارضية بوعد الله لجماعة
الحق والايمان، إذ أنّى لهم من خلال معادلات تفكيرهم الهابطة أن يؤمنوا بمشروع
نجاة من خلال سفينة تبنى في الصحراء ؟


رايت أمامي المشروعين وفكرت مليّا مع أيّهما
أقف ؟ مشروع هؤلاء الذين يرابطون ويصابرون ويجاهدون في فلسطين حيث سفينة نجاتهم في
هذا الثبات على هذه الفلسطين؟ ومشروع أولئك الذين يملكون معادلات الارض من قوة
واستكبار وكيد وتآمر، ملكوا النووي والاسلحة النوعية وقوة الجو والبحر والارض
وتترسنوا بدول عظمى تهيمن بسطوتها على مكامن القوة والجبروت، اصحاب هذا المشروع
الثاني يمتلئون سخرية هذه الايام من اصحاب المشروع الاول المستمسكون بخيار السفينة
الفلسطينية بجهدهم المقلّ ونواياهم الطيبة وايمانهم العميق .


جلّى وبسط  الشيخ أمر المشروعين وجعلني على محجة بيضاء
فسارعت لاعلان انحيازي التام لمشروع السفينة وفلسطين .


وسرعان ما دار بنا الشيخ مع دوران عجلة
الزمان التي يمسك بزمامها الواحد الديّان فعمّ الارض طوفان حيث جرت المقادير
السماوية " فالتقى الماء على أمر قد قدر " ، فرايت حينها خيار الصبر
والمصابرة والرباط والمرابطة والجهاد والمجاهدة على أرضية السفينة الثانية حيث قال
صلى الله عليه وسلم " من اختار ساحلا من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في
جهاد الى يوم القيامة "، عندئذ أيقنت صحة خياري، هو بالفعل ذات الخيار الذي
اختاره نوح عليه السلام : " أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا " واراني
الشيخ ملاصقة العناية الربانية والحفظ والحماية كما هو حال حرف الباء مع كلمة
أعيننا.


وكان لا بدّ من أن أقف طويلا على مصارع
البشرية الطاغية بعد الطوفان ونجاة مشروعنا ، كان لا بدّ من أن تتداعى الصحافة
العالمية والمحلية وأن تعقد المؤتمرات وتستنفر مراكز الابحاث، لم يكن حدثا عابرا
ولا خبرا عاجلا ولكني رايت البيان القرآني يلخّص ذلك بثلاث كلمات، يا للبلاغة
والمعجزة ألهذه الدرجة هانوا على الله ؟ فعلا شعرت حينها بقوله تعالى :" ومن
يهن الله فما له من مكرم " ولم يقل الله فيهم بل جاء اللفظ القراني : قيل :
ماذا قيل ؟ ماذا عن تلك الملايين وذاك الجبروت ؟ ماذا عن القدرات الخارقة التي لم
يكن أمام نوح عليه السلام من خيار معها سوى خيار السفينة بعد الف عام الا خمسين من
الكدّ والعمل ؟ التزم نوح عليه السلام المقاومة السلمية والنفس الطويل جدا دون كلل
أو ملل؟ النتيجة واحد لصالح مشروعه وصفر لصالح أعدائه وما يملكون من جبروت، وهذا
في الدنيا أما الاخرة فلها حسابها، بثلاث كلمات نعاهم القران وبشّرهم بمصير لا
مقارنة به بين غرق عاجل في الماء والغرق في جهنم أبد الابدين .


بيان حول احداث غرق البشرية ونجاة سفينة
نوح .


" بعدا للقوم الظالمين "


انتهى البيان .


ونزلتُ من السفينة، رأيت الناس الناجين
يتحدثون في أمر البيان ، يحللون كلمة بُعدا كيف أبعدهم الله من الذاكرة ومحى
تاريخهم بل ورمى بهم الى مجاهل التاريخ، كيف ابعدهم الله من رحمته بينما كانوا
قريبين منها لو استبدلوا السخرية بالتواضع والاستجابة الى أمر الله، كيف كان
بامكانهم أن يصنعوا حياة سعيدة بقربهم من مشروع الله في الارض وبعدهم عن حياة
الشياطين، الا انهم اختاروا البعد فأبعدهم الله أن ينالوا رحمته وأن يركبوا سفينته
ويدخلوا جنته، رماهم في قاع سحيق لا رجعة منه فهل هناك ما هو أبعد من هذا ، وحلل
الناس هذا الوصف الذي استحقوا به كل هذا البعد : القوم الظالمين، ظلموا أنفسهم
مرّات كثيرة: عندما لم يستجيبوا لدعوة الحق وعندما سخروا من السفينة وفعل النبيّ
وعندما اغترّوا بقوتهم ورأوا فيها ما يعصمهم من أمر الله .


عندئذ رجعت لنفسي فنظرت الى اصحاب السفينة
الثانية فلسطين ونظرت الى القوم الظالمين الذين انحازوا الى مشروع عدوّ فلسطين
ومالئوه وناصروه ودعموه وحشدوا اقلامهم وإعلامهم وابواقهم وأموالهم ورهنوا
مستقبلهم معه . رايت البشرية اليوم بقريبها وبعيدها كم هي بعيدة عن أصحاب السفينة
وكم هي ظالمة وطاغية، رايت أمواجا عالية تنتظر أمر الله لتلتهم كل من يسخر من
السفينة .


رايت السفينة التي نجاني الله منها وكل من
ركب معنا ، رايت فيها محض القدرة الربانية وكي لا يتكأ أحد إلى عالم الاسباب دون
ربّ الاسباب كانت المفاجأة : لم تكن السفينة الا ساترا لقدر الله، لقد كانت ذات
ألواح ودسر:" خشب ومسامير" .. يا الهي بقدرة الله وأوهن الاسباب تكون
النجاة ويكون الانتصار ودحر قوى الظلم والطغيان .


ومن هذا الموقع الجليل وساحة المعركة
الربانية أرانا الشيخ موقعنا في ارض الشام من خلال الحديث الشريف :


" ان الله تكفل لي بالشام واهله فمن
كان في كفالتي فلا ضيعة عليه "  


وأرانا مصارع القوم عبر التاريخ على أرض
السفينة الثانية فلسطين وكيف قيل لكل من ظلم وطغى عليها : بعدا للقوم الظالمين .


رجعت الى بيتي فقلت لهم : ركبت سفينة نوح
عليه السلام اليوم مع الشيخ عيد دحادحة .       




Previous Post Next Post